الرد على الصوفية في الانبساط
ثم يقول ابن القيم رحمه الله: "ولم يكن لأحد من البشر في منزلة القرب والكرامة الحظوة والجاه ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى". فلا أحد أقرب إلى الله وأكثر جاهاً ومنزلة عند الله عز وجل من رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: "وكان أشد الخلق لله خشية وتعظيماً وإجلالاً، وحاله كلها مع الله تشهد بتكميل العبودية.
وأين درجة الانبساط من المخلوق من التراب، إلى الانبساط مع رب الأرباب" يقول: "نعم. لا ينكر فرح القلب بالرب تعالى وسروره به، وابتهاجه وقرة عينه، ونعيمه بحبه والشوق إلى لقائه إلا كثيف الحجاب، حجري الطباع، فلا بهذا الميعان، ولا بذاك الجمود والقسوة". والجمود واقع عند أهل الكلام، فهم يتكلمون عن الله سبحانه وتعالى كما يتكلمون عن أي مخلوق، بدون أي عاطفة ولا إحساس، والميعان: هو أن يصل الحال بأحدهم أن يقول: إنني أقول ما شئت في حقه ولا يؤاخذني؛ لأنني وصلت إلى الدنو منه، والانبساط بين يديه؛ فيقول ابن القيم: لا هذا ولا هذا، والحق وسط بينهما.
ثم يقول: "وبهذا ومثله طرق المتأخرون من القوم السبيل إليهم، وفتحوا للمقالة فيهم باباً، فالعبد الخائف الوجل المشفق الذليل بين يدي الله عز وجل، المنكس الرأس بين يديه، الذي لا يرضى لربه شيئاً من عمله: هو أحوج شيء إلى عفوه ورحمته".
أي: مهما بلغت عبادتك لله فأنت أحوج ما تكون إليه في أن يتقبل منك هذا العمل، وأن يقبلك ويعفو عنك، وأن يغفر لك، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ))[المؤمنون:60] أي: خائفون وهم يعملون الأعمال الصالحة، أما أن يقال: ما دام أنك عملت الطاعات، وأصبحت تحبه ويحبك، إذاً سقط ما بينكما من الكلفة والحشمة فقل ما شئت، فهذا فاسد وباطل ومخالف للواقع.
ثم يقول: "ولا يرى نفسه في نعمته إلا طفيلياً، ولا يرى نفسه محسناً قط، وإن صدر منه إحسان علم أنه ليس من نفسه ولا بها ولا فيها، وإنما هو محض منة الله عليه، وصدقته عليه، فما لهذا والانبساط؟". يكفي في هذه المسألة أننا عرفنا هذا الاصطلاح.
قال الشبلي : (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) إذاً: الشبلي كلامه هنا جار على منهج القوم أعني: الصوفية، وهذه العبارة منه محتملة لذم الانبساط والقول به، لكن هل هذا مقصود المصنف في الاستشهاد به هنا؟ فإنه استشهد به على معنى آخر: وهو أن من ينبسط مع الحق فهو تارك للأدب.
وعلى هذا فالانبساط لا يجوز، والمصنف رحمه الله حمل الكلمة على أحسن المحملين، وإلا فهي في الحقيقة تحتمل الأمرين؛ ومعرفة القائل تساعد على تحديد المراد، والاحتمال الأول وارد؛ لأن القوم عندما يتكلمون عن الانبساط، يجعلونه منزلة ودرجة ومرتبة، ومعنى الانبساط عندهم: ترك الأدب. أي: أن تعتبر الكلفة والاحتشام ساقطة بينك وبينه، فتقول ما شئت؛ ولهذا قالوا: إن موسى عليه السلام لما قال: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ))[الأعراف:155] تكلم معه وخاطبه بقوله: أنت فتنتنا بهذا الشيء. يقولون: وهذا الكلام ليس فيه حرج؛ لأن الكلفة بينهما ارتفعت، والحشمة ذهبت، وهذا خلاف الحق.
إذاً: فهذا الاحتمال يكون وارداً، لكن مراد المصنف رحمه الله: إنكار الكلام في ذات الله، وكذلك أئمة السلوك؛ فنقل كلام الشبلي، حيث يقول: (إن الانبساط مع الله ترك للأدب) أي: أمر غير مطلوب وغير صحيح فلا تنبسط، وهذا حسب فهمه رحمه الله، والذي يهم الآن هو أن نفهم مراده وهو: أنه قصد إقامة الحجة عليهم من كلام أئمتهم.